و في العصر الحديث مع مطلع عصر النهضة العربية حاول العالم العربي تلمس طريقه و اللحاق بركب الغرب في ميدان الفنون الانسانية بعد أن تأخر عنها لقرون طويلة، فافتتحت في العواصم العربية كليات الفنون الجميلة و أرسل كثير من الشبان و الشابات لدراسة الفنون في العواصم الغربية.
و يعرف معظم الفنانين أن تشريح الجسد البشري هو واحد من أهم و أصعب المواضيع في عالم التصوير و النحت، حتى أن فناناً مثل مايكل آنجلو اعتبر عبقرياً لبراعته في رسم و نحت الجسد البشري بمختلف حركاته و أوضاعه، لذلك كان الموديل العاري واحداً من المواد الأساسية في كليات الفنون الجميلة حول العالم و التي تتيح للطلاب معرفة أشكال أجزاء الجسم البشري و تناسق أبعادها و تغير شكلها مع تغير الحركة، لكن هذه المادة تعرضت لكثير من سوء الفهم من قبل الفئات المتعصبة في المجتمعات العربية، ما أدى لاختفاء هذا التقليد الأكاديمي تدريجياً من مختلف كليات الفنون الجميلة في العالم العربي، و إليكم التفاصيل من ثلاث بلاد عربية :
1. مصر :
مطلع القرن العشرين و تحديداً عام 1905 أشرف الأمير يوسف كمال باشا على إنشاء مدرسة لتعليم الفنون الجميلة في القاهرة تحولت لاحقاً إلى كلية قبل أن تصبح لاحقاً جزءاً من وزارة التعليم العالي في مصر.
في البداية كان تصوير و نحت الجسد العاري مادة أساسية في المدرسة و كان أول موديل عاري الشقيقان عبد العزيز و عبد الوهاب هيكل حيث كانا يتقاضيان مقابلاً مادياً جيداً عن هذا العمل، ثم توالت على الكلية العديد من الموديلات العارية منهن فتيات من بنات الطبقة الأرستقراطية في مصر آنذاك كن يقمن بدور الموديل العاري دون مقابل مادي حباً بالفن.
في هذه الفترة ظهر عدد من الفنانين الذين برعوا في تصوير الجسد البشري من بينهم النحات الشهير محمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر الشهير، و الفنان عبد البديع عبد الحي جمعة الذي قدم العديد من الأعمال المميزة حول جسد المرأة و كان يتخذ من زوجته موديلاً عارياً في معظم الأعمال التي قدمها.
استمر وجود الموديل العاري في كلية الفنون الجميلة في مصر حتى الستينات، و في مطلع السبعينات و مع صعود التيارات الإسلامية المتطرفة في الجامعات المصرية و بخاصة جماعة الإخوان المسلمين بمباركة من نظام الرئيس أنور السادات أثار الطلاب الإسلاميون موضوع الموديل العاري و ضغطوا على إدارة الكلية حتى أصدرت عام 1973 قراراً بمنع تدريس الموديل العاري باعتباره مخالفاً للشرع و الدين الإسلامي.
مرسم مدرسة الفنون الجميلة عام 1927
في مطلع القرن الماضي لم يكن في سوريا كلية للفنون الجميلة، لذلك فقد درس جيل الرواد من الفنانين السوريين في مصر أو في المدارس و الكليات الغربية، و نقلوا حين عودتهم إلى سوريا تقليد الموديل العاري في مراسمهم و محترفاتهم، من أبرز هؤلاء فتحي محمد و ناظم جعفري و محمود حمّاد حيث يبدو الموديل العاري حاضراً و بقوة في أعمالهم.
مطلع الستينات تم تأسيس كلية الفنون الجميلة بدمشق و كان الموديل العاري مادة أساسية، و حين كان الموديل يغيب لسبب ما كان أحد الطلاب يقوم بالحلول مكانه، آنذاك كان هناك ميزانية مخصصة للموديل العاري من قبل الكلية و كان الموديل يعتبر تقريباً موظفاً لدى وزارة التعليم العالي، و يذكر بعض طلاب الكلية أن من بين من قاموا بدور الموديل العاري مطلع السبعينات الفنانة المعروفة نبيلة النابلسي، و حول طريقة تعامل الطلاب آنذاك مع الموديل العاري يقول الفنان التشكيلي أسعد عرابي : "كانت تغلق الأبواب و خاصة على غرباء الكلية، ويتم رسم الموديل العاري بالرصانة نفسها التي يتم بها اليوم تشريح الجثث في كليات الطب. ذلك أدى إلى علاقة رصينة بين الطلاب والأساتذة مع الموديل التي كانت تتمتع بالاحترام بل وبنوع من الاعتراف بالجميل. كما ويتحوّل عمل الموديل إلى مهنة كريمة كباقي المهن".
في السبعينات تراجع دور الموديل العاري في الكلية مع تراجع الميزانية المخصصة لها حتى لم تعد الكلية تجد امرأة تقبل العمل كموديل عاري، كما أن الجو العام في البلاد الذي أصبح أكثر محافظةَ و انغلاقاً أدى لاختفاء الموديل العاري تماماً من الكلية رغم عدم صدور قرار رسمي بمنعه كما حصل في مصر.
من أعمال الفنان محمود حماد
3. لبنان :
في لبنان كان الجسد العاري حاضراً بقوة في أعمال رواد الفن التشكيلي مطلع القرن الماضي أمثال داوود قرم و حبيب سرور و مصطفى فروخ ممن درسوا الفن خارج لبنان، و مع تأسيس الجامعة اللبنانية كان الموديل العاري متواجداً في كلية الفنون في خمسينات و ستينات و حتى سبعينات القرن الماضي، و كان من أشهر الموديلات اللاتي عملن في الكلية رينيه ديك ومريم خيرو و ميشلين ضو و كانوا موديلات محترفات يتمتعن بسمعة طيبة في الوسط الفني، لكن سيطرة ميليشيات ذات توجه ديني متطرف على المنطقة التي تقع ضمنها الكلية خلال سنوات الحرب الأهلية أدى لمنع مادة الموديل العاري ابتداء من عام 1983، في البداية اعتقد الطلاب أن هذا الوضع مؤقت و أن الأمور ستعود قريباً إلى طبيعتها، لكن القرار ظل سارياً حتى بعد انتهاء الحرب.
من أعمال الفنان مصطفى فروخ
من أعمال الفنان جورج قرم
من أعمال الفنان جورج قرم
شاهد أيضاً :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق