لعب الحريم دوراً بارزاً خلال فترة حكم السلطنة العثمانية التي امتد نفوذها لقرون من بلاد البلقان إلى مكة و الحجاز، حتى أن مصطلح "قادينلَر سَلطَناتي" أي "سلطنة الحريم" ظهر آنذاك للإشارة إلى التأثير القوي للحريم على قصر السلطان العثماني وتدخلهن في أمور الدولة و الحكم.
و لعل الصراع بين نوربانو و صفية خاتون الذي نشب مع وفاة السلطان سليم الثاني وصعود ابنه مراد الثالث إلى سدة الحكم هو خير مثال على صراعات الحريم العثماني و تأثير الجواري و المحظيات على سلاطين بني عثمان.
فبعد وفاة السلطان سليم الثاني عام 1574 خلفه ابنه مراد الثالث و هو ابن جارية تدعى نوربانو هي ابنة عائلة من نبلاء مدينة البندقية كان القراصنة العثمانيون قد اختطفوها و باعوها كجارية لحريم السلطان، فأصبحت سريعاً إحدى الجواري المفضلات لدى سليم الثاني و أنجبت له ابنه الذي خلفه على العرش، في حين حملت هي لقب "السلطانة الأم".
و في مشهد أصبح معتاداً في التاريخ العثماني كان أول عمل افتتح به مراد الثالث عهده هو اغتيال إخوته الخمسة، حتى يؤمن عرشه من أي انقلاب داخلي، وكان المحرض الأكبر له في هذا القرار الدموي والدته السلطانة الأم.
هكذا استحوذت نوربانو على النفوذ الهائل الذي لطالما حلمت به، بعد أن حصلت على لقب السلطانة الأم و احتفظت به حتى وفاتها، و قد كانت ثاني امرأة تحصل على هذا اللقب بعد السلطانة حفصة خاتون أم السلطان سليمان القانوني، و قد شبه بعض المؤرخين نوربانو بكاترين دي مدتشي الملكة الأم في فرنسا، فكلتاهما تنحدران من أصول إيطالية، وكلتاهما حصلت على نفوذ هائل داخل القصر الحاكم في بلدها، وأدارت شؤون الحكم من خلف ستار، خاصة أن السلطانة العثمانية والملكة الفرنسية عاصرتا فترة تولي حكَّام ضعاف الشخصية في ظل أوقات عصيبة.
و لم تتوقع نوربانو و هي في عنفوان سلطتها أن يأتيها التهديد من المكان الذي خرجت هي منه و استمدت سلطتها من خلاله، ألا و هو حريم السلطان، فمراد كان معروفاً بعشقه للنساء، فانغمس في علاقاته مع الجواري و كانت النتيجة ذرية من صلبه جاوزت المائة، لكن جارية واحدة خطفت لبه فعشقها حتى الجنون و هي الجارية الإيطالية الأصل صفية خاتون، التي ربما رأى فيها مراد الثالث صفات أمه ذات الأصل الإيطالي أيضاً، فكان طبيعيا أن يضج الحريم بصراع السلطانة الأم المتمسكة بكل قطرة في نفوذها المتصاعد، و الجارية الحسناء المدعومة بحب السلطان.
صراع المرأتين بدأ بإعادة تقسيم الحريم بما يتناسب مع نفوذ السلطانة الأم و جارية السلطان المفضلة، و بناء على رغبة الأم وافق مراد الثالث على إعادة ترتيب جناح الحريم في قصر الباب العالي من جديد، و لهذا الغرض تمت الاستعانة بأشهر معماري في التاريخ العثماني سنان باشا، و الذي أعاد تقسيم الحريم بحسب توجيهات السلطانة الأم التي اعتبرت أنها كسبت هذه الجولة، بعد أن ضمنت زيادة مساحة جناح الحريم بصورة غير مسبوقة، خاصة أنها جعلت من غرف الجواري البنية التحتية لجناحها الخاص، فعندما تخرج السلطانة الأم من جناحها تطل مباشرة من شرفة علوية على جميع أرجاء الحريم، و بذلك حققت نوربانو انتصارها بإعلانها الرمزي، أن مكانتها هي الأعلى من مكانة أي امرأة أخرى داخل الحريم، بما في ذلك جارية السلطان المفضلة صفية خاتون.
وجه آخر من وجوه الصراع بين السلطانة الأم وصفية خاتون، تمثل في تخصيص جناح داخل الحريم لولي العهد محمد بن السلطان مراد من صفية خاتون، فالسلطانة الأم أرادت أن تضع حفيدها تحت رعايتها و تشرف على تربيته، حتى إذا ما تعرض ابنها السلطان مراد لأي مكروه، فإنها تضمن لنفسها حب و ولاء السلطان الجديد، و هكذا تم بناء جناح ولي العهد بالقرب من جناح السلطانة الأم و فوق جناح والدته، و هو ما جعل ولي العهد تحت سيطرة نساء الحريم بعيداً عن مجالس رجال الدولة، ما سيكون له أثره البعيد على مستقبل دولة بني عثمان.
كما لعبت السلطانة نوربانو دورا بارزاً في السياسة الخارجية للدولة العثمانية، فعملت على تدعيم أواصر الصداقة مع بلدها الأم جمهورية البندقية، ما أدى إلى توتر العلاقات بين السلطنة العثمانية وجنوا عدوة البندقية، و قد استخدمت نوربانو في علاقاتها الخارجية شخصية نسائية بارزة في هذا العصر وهي سيدة يهودية تدعى إستر كيرا كانت زوجة جواهرجي القصر، و قد اتخذتها السلطانة الأم مساعدة شخصية لها، فتمكنت بذلك من أن تلعب دورا كبيرا في السياسات الداخلية والخارجية للدولة العثمانية، و من خلال تغلغلها في دائرة الحريم ودعم السلطانة الأم المطلق لها، أصبحت إستر كيرا مسؤولة عن جمارك إسطنبول بفرمان رسمي أصدره السلطان نفسه، و يرى بعض المؤرخين أن هذه السيدة الغامضة مارست نشاطاً تخريبياً في السلطنة العثمانية، من خلال تزييف العملة، مما انعكس سلباً على مالية الدولة، كما عملت على بيع المناصب و شكلت شبكة فساد واسعة امتدت أذرعها إلى معظم دوائر الدولة.
هكذا تربعت السلطانة الأم على رأس هرم السلطة في السلطنة العثمانية حتى وفاتها عام 1583، فرحلت بعد أن وضعت أساس ما بات يعرف رسمياً بعصر "سلطنة الحريم"، الذي هيمنت فيه الجواري على مقدرات الدولة، و ما ان رحلت السلطانة الأم حتى أطلت عدوتها اللدود الجارية صفية خاتون، لتتربع هي الأخرى لعقود على رأس "سلطنة الحريم" فحكمت البلاد و العباد من خلف الكواليس من خلال نفوذها الواسع على زوجها مراد الثالث، و من بعده على ابنها السلطان محمد الثالث الذي حصلت في عهده على لقب السلطانة الأم، و ظلت محتفظة به حتى وفاتها عام 1619.
شاهد أيضاً :
actually, it was Hürrem Sultan the first woman to begin this era, and Kösem sultan was literally the most powerful one among them all
ردحذفكذب مقال مضلل
ردحذفكذب غير صحيح yk
ردحذف