الثلاثاء، 27 يونيو 2017

الإلحاد في التراث الفكري العربي والإسلامي



رسم من كتاب "كليلة ودمنة" الهندي الذي نقله ابن المقفع إلى العربية في العصر العباسي


في عام 1945 صدر في مصر كتاب "تاريخ الإلحاد فى الإسلام" لكاتبه عبد الرحمن بدوي المفكر و أستاذ الفلسفة في جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حالياً)، هذا الكتاب الذي اعتبر صادماً في حينه هو عبارة عن بحث مستفيض في كتب التراث يكشف الستار عن حقائق تاريخية حول أهم الملحدين في التاريخ العربي و الإسلامي، و هي حقائق جرى إخفاؤها أو تجاهلها عمداً لقرون طويلة خشية التبعات التي يجرها عادةً الخوض في المحظورات الدينية والإجتماعية.

و يفسر عبدالرحمن بدوي في كتابه نشأة ظاهرة الإلحاد فى التاريخ الإسلامي باستنفاذ الروح العربية خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى لكل القوى الدينية، فبعد أن كانت أرض الجزيرة العربية تربةً خصبة لازدهار أديان مختلفة آخرها الإسلام، انحدرت تلك الروح  من قمة الإيمان إلى النقيض التام، حيث كان ذلك تطورًا حضاريًا طبيعاً، وهو للمصادفة شبيه بما نعيشه اليوم في عصرنا الراهن، بعدما استنفذ الكثير من الشباب العربي طاقته فى الاستماع لخطاب شيوخ السلطان أو مشايخ الفتنة و التكفير، و شاهد بأم عينه ما جره هذا الخطاب على البلاد و العباد من دمار و خراب، فكان أن وجد ملاذه فى طريق الإلحاد.

و الإلحاد العربي كما يقول بدوي إلحاد من نوع خاص، فإذا كان الإلحاد في الغرب يقوم على إنكار وجود الإله، وهو ما عبر عنه نتشه و من قبله المفكرون والفلاسفة الإغريق، فإن الإلحاد العربي قام على إنكار النبوة والأنبياء، دون الإنكار التام لوجود الإله. 

1. إبن المقفع :

هو عبد الله بن المقفع (724-759) الكاتب ذي الأصل الفارسي الذي اشتهر بترجمة كتاب "كليلة  ودمنة" إلى العربية، و قد اتهم الرجل صراحة بالإلحاد والزندقة فى معظم الكتب التاريخية والأدبية، فنرى الأصفهاني صاحب "الأغاني" يورده فى طائفة الماجنين المتهمين بالزندقة، ونرى ابن خلكان أيضا يقول إنه زنديق يفسد الناس، بل أكد بعض المؤرخين أنه لم يكن ينظر للقرآن نظرة احترام، وحاول معارضته فى شعره.

و لعل السبب الأساسي لاتهام ابن المقفع بالزندقة هو  فصل من كتاب "كليلة ودمنة" يعرف بباب "برزويه كما ترجمه الوزير بزرجمهر بن خلكان" وتدور كثير من الشكوك حول أن ابن المقفع ألف هذا الباب بنفسه ونسبه زوراً للكتاب الأصلي حتى يخفي بين سطوره أفكاره المتشككة في جميع الأديان، وفي أحد مقاطع هذا الباب يحكي ابن المقفع عن رحلة برزويه مع الأديان، فهو يشكك أولاً في صحة الدين الذي ورثه عن أسلافه ثم يحاول أن يجد مطلبه في دين غيره، إلى أن ينكر على أهل كل دين أنهم يتعصبون لإيمانهم الذي ولدوا عليه وورثوه عن أسلافهم دونما إعمال للعقل، علاوة على ذلك أن أصحاب الأديان المختلفة يعادون بعضهم بعضاً فيدعي كل منهم صحة إيمانه و بطلان إيمان الآخرين، ولما أعمل عقله أخيراً لم يجد في أي دين ما يدعو للتسليم المطلق به دون غيره، و توصل إلى أنه على المرء أن يكتفي بحسن الخلق مع الناس ورد الأذى عنهم

تهمة الزندقة أدت لإلقاء القبض على ابن المقفع في البصرة بأمرٍ من الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، فقتل وهو في السادسة والثلاثين من عمره، بعدما أذاقه الوالي سفيان بن معاوية الذي كان يكن له كراهية شخصية أشد أنواع العذاب، حيث قطعت أعضاؤه و هو حي و شويت أمامه على تنور مشتعل حتى مات من شدة العذاب.

2. ابن الراوندي : 

أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي المعروف باسم ابن الراوندي (827-911)، هو أشهر ملاحدة الإسلام و أكثرهم إثارة للجدل على الإطلاق، وقد مر بمراحل عقائدية مختلفة وانتقل من مذهب لآخر، حتى وصل إلى رفض الأديان، فوضع كتاب "الزمرّد"، الذي أكد فيه  أنه بالعقل الذى وهبنا الله إياه فقط تستقيم الأمور ولا نحتاج إلى نبي أو رسول ينظم المسألة، فالأنبياء من وجهة نظر ابن الراوندي ليسوا إلا مشعوذين و دجالين، والمعجزات التى تروى عنهم قائمة على الأكاذيب، كما سخر فى كتابه من الملائكة الذين يذكر التراث الإسلامي أنهم حاربوا مع الرسول فى موقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون الأوائل على جيش المشركين. 

و للأسف لم يتبقَّ لنا من أصول كتب ابن الراوندي شيء، وجملة ما تبقى عنه وارد في كتابات رجال الدين الذين أخذوا على عاتقهم دحض اتهاماته، و أشهرهم الشيخ المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الاسماعيلي، داعي الدعاة في مصر زمن الدولة الفاطمية.

3. الرازي :

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (864-923)، على الرغم من أن شهرته كطبيب طغت على شهرته كمفكر و فيلسوف، إلا أن الرازي يعتبر واحداً من أبرز الملحدين في التاريخ العربي و الإسلامي، حيث يوجد كتب ومقالات فلسفية منسوبة له تنتقد الاديان والنبوة والكتب السماوية، من بينها كتابا "في النبوات" و "حيل المتنبين"، اللذين أوردهما البيروني في الفهرس الذي أعده حول كتابات الرازي، و صنفهما تحت عنوان "كتب في الكفريات".

و مثل ابن الراوندي، جعل الرازي من العقل أساساً لفكره، و شكك في النبوة و الأنبياء و الأديان جميعها، حيث يقول: "الباري عزّ إسمه إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه"، و يقول في النبوة : "من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك، ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟"، و قال في القرآن : "تعجبنا من قولكم إن القرآن معجز، وهو مملوء من التناقض، وهو أساطير الأولين، إنكم تدعون أن المعجزة قائمة موجودة، وتقولون: من أنكر ذلك فليأت بمثله، إن أردتم مثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلق منه ألفاظاً، وأشد اختصاراً في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعاً، لإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به".

4. المعري : 

أبو العلاء المعري (973-1057) الفيلسوف والشاعر والأديب الضرير ابن معرة النعمان، و صاحب كتاب "رسالة الغفران"، كان هو الآخر من المشككين في الأديان جميعها، و مما قال : 

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء
فلا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطّروه
وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا بالمحال فكدروه
دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل

و قد اختلف المؤرخون في موقف المعري من الإله، ففي حين تنسب إليه بعض الكتابات التي تنكر وجود الإله بصورة مطلقة، يذكر بعض المؤرخين و من بينهم طه حسين أن المعري كان يسلم بوجود الله ويتحدث عنه بلسان العابد الزاهد الصادق في عبادته، و الغالب أن المعري كأي مفكر آخر تقلب خلال حياته في مراحل كثيرة بين الشك والإيمان بالله.

شاهد أيضاً :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق