في ستينات القرن الماضي يوم كانت كل الأحلام تبدو ممكنة وكان العالم العربي يعيش نشوة التحرر الوطني والنهضة الاجتماعية الشاملة ظهرت ما يمكن أن نطلق عليها "طفرات" كان من الممكن لو كتب لها النجاح أن ترسم ملامح مستقبل جديد للمنطقة يختلف تماماً عمّا نعيشه اليوم من واقع، لكن تلك "الطفرات" وئدت في مهدها لأسباب عديدة داخلية وخارجية وتحولت إلى مجرد ذكريات لفرص ضائعة وأحلام جميلة ولى زمنها.
قصة "النادي اللبناني للصواريخ" هي قصة واحدة من تلك المحاولات الطموحة التي تحدت كل العوائق وحاولت أن تلامس حلماً اعتقد كثيرون أنه حكر على القوى العظمى والبلدان الغنية، لكن مانوغ مانوغيان الشاب العشريني هو ورفاقه في جامعة هايكازيان ببيروت آمنوا بقدراتهم وبرغبتهم في تحقيق إنجاز يسجل باسم بلدهم لبنان، فكانت مغامرة "النادي اللبناني للصواريخ" التي تستحق أن تروى للأجيال القادمة.
بدأت قصة النادي أواخر الخمسينات حين كان الصراع على غزو الفضاء على أشده بين عملاقي الحرب الباردة الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، في ذلك الوقت كان مانوغ مانوغيان الأستاذ الجامعي الشاب في جامعة هايكازيان والمولود في القدس عام 1935 لأسرة من أصول أرمنية يتابع بشغف أخبار تلك الاكتشافات عبر صفحات المجلات العلمية التي كانت تنشر في بيروت آنذاك، مانوغيان شكّل مع مجموعة من الطلبة المتحمسين نادياً لهواة العلوم، وحين طرح مانوغيان فكرة إجراء تجارب لإطلاق الصواريخ رفضت إدارة الجامعة في بادء الأمر بسبب عدم توفر التمويل اللازم والخشية من خطورة مثل تلك التجارب على الطلاب، لكن مانوغيان ظل مصراً على مشروعه حتى حصل على مباركة إدارة الجامعة فتم تغيير إسم النادي إلى "مجتمع جامعة هايكازيان للصواريخ" والذي تشكل في البداية من مانوغيان وثمانية طلاب فقط وبتمويل ذاتي حيث كان الطلاب يتبرعون بجزء من مصروفهم لشراء المواد الأولية اللازمة لصنع الصواريخ.
عام 1964 احتفى لبنان بصواريخ "أرز" من خلال وضع صورتها على طوابع بريدية صدرت بمناسبة ذكرى الاستقلال الحادية والعشرين
في عام 1960 أطلق النادي أول صواريخه والذي أطلق عليه إسم "أرز" تيمناً بشجرة الأرز الرمز الوطني للبنان، التجربة الناجحة لفتت أنظار الجيش اللبناني الذي قرر دعم المشروع لوجستياً ومادياً وقام بتعيين أحد ضباطه ليكون حلقة الوصل بين النادي وقيادة الجيش، كما استضاف الرئيس اللبناني آنذاك اللواء فؤاد شهاب أعضاء النادي في القصر الجمهوري، وفي الوقت نفسه بدأت الصحافة المحلية والعربية تهتم بالمشروع، في حين تم تغيير إسم النادي مجدداً إلى "مجتمع لبنان لعلم الصواريخ".
ذاع صيت مانوغيان وروفاقه وتواصل إطلاق صواريخ "أرز" التي كان آخر نسخة منها هو "أرز 8" الذي أطلق في آب - أغسطس 1966 وبلغ مداه نحو 200 كيلومتراً وسقط بالقرب من سفينة تجسس بريطانية كانت تراقب مساره بالقرب من سواحل قبرص.
تلقى مانوغيان عروضاً عديدة لمغادرة لبنان، منها عرض من الاتحاد السوفييتي، وعرض آخر من أمير الكويت الذي اجتمع بمانوغيان سراً في بيروت واقترح عليه ميزانية مفتوحة شرط أن ينتقل هو وأعضاء فريقه إلى دولة الكويت. لكن مانوغيان رفض كل تلك العروض وفضّل البقاء في لبنان.
الرئيس فؤاد شهاب
عوامل عديدة أدت لتوقف المشروع الفضائي اللبناني عام 1967 من بينها الخلاف الذي نشب بين مانوغيان وقيادة الجيش، ففي حين أرادت قيادة الجيش الاستفادة من المشروع لأغراض عسكرية رفض مانوغيان ذلك تماماً بسبب كرهه للحروب وأصر على إبقاء مشروعه ضمن إطار الاستخدامات السلمية حيث كان يحلم بإطلاق أقمار صناعية تجوب الفضاء لإجراء أبحاث علمية، في الوقت نفسه تعرض لبنان مع تلبد سماء الشرق الأوسط بغيوم حرب مقبلة لضغوط دولية لم يستطع مقاومتها استهدفت ايقاف العمل بالمشروع، في حين تلقى مانوغيان عشية حرب حزيران - يونيو اتصالاً من السفارة الأمريكية ببيروت، حيث أعلمه المتصل بأن حرباً على وشك أن تقع في الشرق الأوسط وأنه من الأفضل له ولأسرته أن يغادروا لبنان إلى الولايات المتحدة ، وبالغعل غادر مانوغيان لبنان إلى غير رجعة حيث ما زال يعيش هناك حتى يومنا هذا حيث يعمل الآن مدرساً في جامعة ساوث فلوريدا الأمريكية. في الوقت نفسه انفرط عقد أعضاء النادي مع وقف الدعم الحكومي للمشروع وتوزع أعضاءه بين أميركا وأوروبا ودول الخليج، في حين طوى النسيان قصة المشروع الفضائي اللبناني، حتى أعاد التذكير به فيلم حمل عنوان "النادي اللبناني للصواريخ" صدر عام 2013 حيث أعاد سرد قصة ذلك المشروع الطموح الذي لم يكتب له الاستمرار.
قصة النادي تدفعنا للتساؤل : ماذا لو ؟؟ .. ماذا لو كتب لهذا المشروع الاستمرار والنجاح، وماذا لو توفر له مناخ إقليمي ودولي ملائم، هل كان يمكن أن نرى لبنان اليوم وقد أصبح واحداً من بلدان العالم الرائدة في مجال غزو الفضاء وصناعة الصواريخ ؟ الإجابة على هذا السؤال قد تكون صعبة ومؤلمة في آن معاً.