هناك في لندن في حدائق هايد بارك وغيرها يتقابل العشاق، ويفعلون ما يشاؤون بينما رجال الشرطة يروحون ويجيئون في طرقات الحديقة، حيث يرون المعانقات والقبلات، ويسمعون الزفرات والتنهدات، فيمرون على ذلك كله مرور الكرام، ويقفون منه كالأصنام، وكأن شيئاً من ذلك لا يمس الأخلاق والآداب من قريب أو بعيد ! على أنهم رأوا أخيراً أن يوضع حد لهذه الحالة، وأن يطارد العشاق في كل مكان. وتداول في الأمر من يهمهم أمر مكافحة الغرام من الرجال الرسميين وغير الرسميين، فاستقر رأيهم بعد المداولة على أن البوليس الإنجليزي غير مدرب التدريب الكافي للقيام بعمله هذا كما يجب أن يكون، وأن رجاله لم يحسنوا أداء مهمتهم الدقيقة، فعاملوا العشاق بشيء من العنف لا تقتضيه الحال ! وبناء على ذلك قرروا بالإجماع إيفاد بعثة من رجال البوليس الإنجليزي إلى باريس، ليتلقوا على أيدي الخبراء المدربين هناك من رجال البوليس أحدث الطرق وأحسنها لضبط حوادث الغرام، ومطاردة العشاق باللين الذي يتفق مع الظروف والأحوال !
ووصلت البعثة الإنجليزية إلى باريس ووزع رجالها على مختلف الأقسام، ليصحبوا رجالها المختصين في طوفاتهم لمكافحة الغرام الممنوع، وبعد شهر تلقى ولاة الأمر في لندن تقريراً عن أفراد البعثة من المدير العام لبوليس الآداب في باريس، فإذا به يقول فيه : إن البوليس الإنجليزي لا يصلح على الإطلاق لضبط حوادث الغرام، لأن رجاله، كما دلت التجربة، ينقصهم عنصر المرونة الكافية، والشعور الغريزي الذي يجعلهم "يشمون رائحة" العشاق من بعيد، وختم جناب المدير تقريره بأن البرود الإنجليزي الطبيعي، لا يتفق قط مع ما تتطلبه تلك المهمة من صفات ومؤهلات .. وهكذا عادت البعثة من حيث أتت، وقدر للغرام في بلاد الإنجليز، ألا يجد مكافحين مدربين .. ومن طريف ما يروى عن البعثة أن أحد افرادها خرج ليلة مع شرطي فرنسي إلى الممرات الضيقة في غابة بولونيا حيث يكثر العشاق، فسمعا تنهدات غريبة، وسأل الفرنسي صاحبه عما يسمع، فلما أجابه بأنه يسمع تنهدات يحرمها القانون، اتفق معه على ضبط العاشقين متلبسين بالجريمة ووضح له مهمته في تنفيذ الخطة اللازمة، فأدى هذه المهمة على ما يرام ووقع في أيديهما العاشقان المتلبسان. وكم كانت دهشتهما عظيمة حين وجدا أن ذلك العاشق الولهان ليس سوى عضو محترم من أعضاء البعثة الإنجليزية التي جاءت إلى باريس لتتدرب على ضبط حوادث الغرام !
مجلة "الإثنين" العدد 655 - 30 كانون الأول ديسمبر 1946
في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية أشهر النازيون آخر أسلحتهم السرية التي كانوا يأملون بأن تغير مسار الحرب، فأسقطوا على لندن مئات الصواريخ البالستية من طرازي V1 و V2، والتي زرعت الرعب في قلوب البريطانيين وأسقطت بينهم آلاف الضحايا. بعد انتهاء الحرب حاول كل من الروس والأمريكيين العثور على العالم الألماني الذي كان يقف خلف هذا الاختراع الخطير، لا لمحاكمته كمجرم حرب كما حدث لغيره من القادة النازيين، بس لاستغلال اختراعه في الصراع القادم بين المعسكرين الشرقي والغربي والذي سوف يعرف فيما بعد باسم الحرب البادرة. بحث الطرفان عن مخترع الصواريخ الألمانية دون جدوى، فقد أحاط النازيون برنامج الصواريخ الخاص بهم بسرية كبيرة، حيث كان البرنامج يخضع للاشراف المباشر لرئيس جهاز الإس إس هنريك هملر، لكن الأمريكيين فوجئوا بعد انتهاء الحرب واستسلام المانيا بأشهر قليلة برجل الماني ادعى بأن شقيقه هو من اخترع الصواريخ الألمانية، وأنه يود أن يضع نفسه تحت تصرف القيادة الأمريكية شرط أن يسمح لمساعديه أن يرافقوه إلى الولايات المتحدة ليتابع عمله في برنامج الصواريخ هناك.
فون براون محاطاً بضباط سلاح الطيران النازي
وافقت القيادة الأمريكية على هذه الشروط، وبذلك انتقل المهندس فيرنر فون براون مع فريق عمله إلى أميركا ونقلت معهم كل الرسومات والنماذج التي كان فون براون قد أخفاها مع قرب انتهاء الحرب في أحد الكهوف، بالمقابل تم غض الطرف عن كونه عضواً سابقاً في الحزب النازي، وحاصلاً على وسام صليب الاستحقاق الحربي من أدولف هتلر شخصياً، كما تم غض الطرف عن تورطه في سوء معاملة اسرى الحرب الذين كان يتم استخدامهم في تصنيع الصواريخ، وقد مات كثير منهم من الجوع والإجهاد وبسبب الظروف الغير الإنسانية التي كانوا يضطرون للعمل تحتها. في الولايات المتحدة حصل فون بروان على الجنسية الأمريكية وتم مسح كل تاريخه الأسود، فقد كان ذكاؤه وصفاته القيادية أموراً هامة للغاية للأمريكيين الذين كانوا يسعون للتفوق على السوفييت في مجال الصواريخ البالستية التي كانت ضرورية لهم في كل من سباق التسلح والسباق إلى الفضاء.
فون براون مع الرئيس كيندي
التقى فون براون بمعظم الرؤساء الأمريكيين الذي عاصرهم، وقد كان له دور بارز في إرسال أول إنسان إلى سطح القمر عام 1969، وفي عام 1975 حصل على قلادة العلوم الوطنية، بالإضافة إلى عدة جوائز وأوسمة أخرى، وإلى جانب عمله العلمي قدم فون براون في الخمسينات مع والت ديزني برنامجاً موجهاً للأطفال حول علوم الفضاء. توفي فون براون عام 1977 في ولاية فرجينيا الأمريكية بمرض السرطان عن 65 عاماً، بعد حياة حافلة تحول فيها بكثير من الانتهازية من نازي متحمس وضع قدراته العلمية في خدمة آلة الحرب النازية، إلى أحد الشخصيات الأساسية في وكالة ناسا وفي مجال صناعة الصواريخ الأمريكية.
فون براون بين علماء ناسا خلال إطلاق المركبة أبولو 11 التي حملت أول إنسان إلى سطح القمر عام 1969
فون براون مع والت ديزني الذي قدم معه برنامجاً تلفزيونياً موجهاً للأطفال عامي 54-55
قليلة هي الحالات التي كان فيها أهل الدين و أهل الفن على وفاق، بل يمكن القول أن الطرفين غالباً ما يكونون في حالة هدنة طويلة سرعان ما يقاطعها ظهور فيلم أو أغنية أو قصيدة أو كتاب يثير الجدل و يشعل نار الحرب بين الطرفين. و من الأغاني العربية نذر غير يسير أثار معارضة رجال الدين بسبب أفكار حملتها تلك الأغاني أو جمل معينة وردت فيها واعتبرها رجال الدين مخالفة للتعاليم الدينية، فيما يلي قصص بعض أشهر تلك الأغاني :
1. الطلاسم (محمد عبد الوهاب - عبد الحليم حافظ)
في عام 1944 قدم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في فيلمه "رصاصة في القلب" قصيدة "الطلاسم" للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي و التي يقول مطلعها : "جئت لا أعلم من أين و لكني أتيت، و لقد أبصرت أمامي طريقاً فمشيت، و سأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت، كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري"، و هي من الأغاني القليلة في تاريخ الموسيقى العربية التي تدور كلماتها حول موضوع فلسفي حيث تقدم تساؤلات عن ماهية الحياة و معنى الوجود و حيرة الإنسان أمام هذا الكون، و في عام 1962 أعاد العندليب الأسمر تقديم الأغنية في فيلم "الخطايا"، و في كلتا الحالتين أثارت الأغنية حفيظة رجال الأزهر الذين اعترضوا على محتواها و بخاصة جملة : "جئت لا أعلم من أين و لكني أتيت" ما يتعارض حسب رأيهم مع الإيمان بوجود خالق للإنسان و الكون، كما وجه الشيخ المتشدد صاحب التسجيلات واسعة الانتشار في السبعينات عبد الحميد كشك انتقاداً لاذعاً لعبد الوهاب بسبب هذه الأغنية حيث قال : "لا تدري من أين جئت ؟ إقرأ سورة المؤمنون لتعلم من أين جئت !".
2. لست قلبي (عبد الحليم حافظ)
في عام 1967 قدم عبد الحليم حافظ أغنية "لست قلبي" في فيلم "معبودة الجماهير" و هي من كلمات الشاعر كامل الشناوي و ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، و قد أثارت الأغنية سخط رجال الأزهر بسبب جملة : "قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه" و التي اتهم عبد الحليم بسببها بالإعتراض على المشيئة الإلهية ! و اعتبر الشيخ محمد الغزالي في لقاء إذاعي أنه لا يجوز وصف القدر بالأحمق لأن هذا مخالف للدين، في السنوات اللاحقة و بعد رحيل العندليب قامت دار الأوبرا المصرية في إجراء إعتباطي بتعديل هذه الجملة أثناء أداء بعض المطربين للأغنية لتصبح "قدر أحكم الخطى" عوضاً عن "أحمق الخطى" إرضاءً لأهل العمائم !.
3. المسيح (عبد الحليم حافظ)
في عام 1967 قدم عبد الحليم حافظ بعيد نكسة حزيران يونيو واحدة من أجمل أغانيه الوطنية "المسيح" من كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي و ألحان بليغ حمدي، و رغم جمال الأغنية و روعة معانيها إلا أن هذا لم يشفع لها لدى الأزهر الذي اعترض على كلمات الأغنية بسبب تبنيها لرواية الكتاب المقدس حول حادثة صلب السيد المسيح في حين ترى الرواية القرآنية أن المسيح لم يصلب، و بسبب معارضة الأزهر هذه تم منع عبد الحليم من أداء الأغنية في مصر فكان أن قدمها لأول مرة خلال حفلته في قاعة ألبرت هول في لندن خلال الحفلة الشهيرة التي حضرها نحو 8 آلاف متفرج و عاد ريعها لدعم المجهود الحربي للجيش المصري الذي كان يخوض أنذاك حرب الاستنزاف ، بعد نجاح الأغنية و الانتشار الواسع الذي حققته أعادت الرقابة النظر في قرار المنع و سمحت بأداء الأغنية و توزيعها في مصر رغم معارضة الأزهر.
4. الحب كله (أم كلثوم)
في عام 1971 قدمت كوكب الشرق أم كلثوم أغنية "الحب كله" من كلمات احمد شفيق كامل و ألحان بليغ حمدي، الأغنية التي نالت استحسان الجمهور أثارت غضب الأزهر الذي توقف عند عبارة : "يا أرق من النسمة و أجمل من ملاك" حيث قال الأزهر في معرض اعتراضه على الأغنية : "كيف تعتبر أن هناك إنسانا أجمل من ملاك ؟"، و يعتقد النقاد أن أم كلثوم بعد هذه الأغنية باتت شديدة الحذر في انتقاء كلمات الأغاني حتى أن أغنية "اسأل روحك" التي لحنها محمد الموجي كانت تحتوي مقطعاً فيه كلمة "ملايكة" فخشيت أم كلثوم أن تجد نفسها فى حرج مع رجال الدين فقالت للموجي بكل خفة ظل : "يا موجي اصرف الملايكة".
5. من غير ليه (محمد عبد الوهاب)
قدم محمد عبد الوهاب أغنية "من غير ليه" عام 1989، و التي كان من المفروض أن يغنيها العندليب عبد الحليم حافظ إلا أن القدر لم يمهله الوقت الكافي فرحل قبل أن يقدمها للجمهور، الأغنية التي كتب كلماتها مرسى جميل عزيز و لحنها عبد الوهاب أثارت عاصفة من النقد من قبل المشايخ و رجال الدين و بخاصة مطلع الأغنية الذي يقول : "جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عايزين إيه" و كذلك جملة : "و زي ما جينا جينا مش بايدينا جينا"، أما الأزهر فرأى أن في الأغنية دعوة صريحة للكفر و الشرك بالله، و أصدر الشيخان المتشددان عبد الحميد كشك و صلاح أبو اسماعيل فتوى تكفر موسيقار الأجيال و تعتبره خارجاً عن الملة في حين تلقف أحد المحامين الإسلاميين الفتوى و اعتمد عليها في رفع دعوى حسبة ضد عبد الوهاب قال فيها أن كلمات الأغنية تزدري الآية القرآنية : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، لكن المحكمة رفضت الدعوى و برأت ساحة عبد الوهاب و بذلك نجا موسيقار الأجيال من الوقوف أمام منصة المحكمة و هو ابن 87 عاماً في ذلك الوقت !.
6. أنا يوسف يا أبي (مارسيل خليفة)
في عام 1995 قدم الفنان اللبناني مارسيل خليفة أغنية "أنا يوسف يا أبي" ضمن ألبومه "ركوة عرب" و هي من كلمات الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش و ألحان مارسيل خليفة نفسه، الأغنية التي احتوت إسقاطاً لمأساة يوسف الذي نبذه إخوته كما وردت في التوراة و القرآن على مأساة الشعب العربي الفلسطيني أثارت غضب رجال الدين المسلمين و لا سيما مفتي الجمهورية اللبنانية محمد رشيد قباني، فرفعت تحت مسمى الحق العام دعوى قضائية ضد مارسيل خليفة بتهمة "تحقير الشعائر الدينية" و ذلك بسبب تلحينه و غناءه لقصيدة تحتوي على جزء من آية قرآنية : "هل جنيت على أحد عندما قلت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"، و لم يشفع لمارسيل خليفة تاريخه الفني المشرف و غناؤه للقضية الفلسطين و القضايا العربية طيلة سنين، فمثل أمام المحاكم اللبنانية وسط موجة تضامن واسعة معه في أوساط المثقفين اللبنانيين و العرب، و في عام 1999 صدر قرار من المحكمة بتبرئة مارسيل خليفة من التهم الموجهة إليه.