منذ ستينات القرن الماضي منعت دواوين الشاعر السوري الكبير نزار قباني من التداول في السعودية كما منع الشاعر نفسه من دخول المملكة ومن إقامة أمسيات شعرية فيها، وفي حين اعتقد كثيرون أن سبب المنع كان دينياً نظراً للتشدد الذي يغلب على الجو العام في السعودية والذي لا يتناسب مع قصائد نزار وما فيها من دعوة واضحة للتحرر السياسي والاجتماعي، إلا أن العديد من الكتّاب المطلعين على خفايا الأمور في المملكة أعادوا هذا المنع لأسباب سياسية، وتحديدأً إلى قصيدة أصدرها نزار عام 1958 وقيل أن المقصود بها هو الأمير عبد الله الفيصل وزير الداخلية السعودي وابن الملك فيصل والذي كان أيضاً شاعراً ذائع الصيت حيث غنى له كبار المطربين في العالم العربي أمثال أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وغيرهم، وقد عرف عن الأمير زيجاته الكثيرة وعلاقاته النسائية العديدة خاصة أنه كان مقرباً من الأوساط الفنية في مصر والعالم العربي، لذلك اعتقد كثيرون أن قصيدة "الحب والبترول" كانت موجهة إليه، ما تسبب في غضب السعودية على نزار.
يتحدث نزار قباني في قصيدة "الحب والبترول" بلسان إحدى ضحايا شيخ من شيوخ النفط دون أن يسميه، حيث تبدأ القصيدة بتقريع الشيخ على شهوانيته ونهمه للنساء، وإغداقه الأموال على عشيقاته، وتنتهي برسالة سياسية واضحة حيث يقول المقطع الأخير من القصيدة:
تمرغ يا أمير النفط
فوق وحول لذاتك
كممسحة تمرغ في ضلالاتك
لك البترول فاعصره
على قدمي خليلاتك
كهوف الليل في باريس
قد قتلت مروءاتك
على أقدام مومسة هناك
دفنت كل ثاراتك
فبعت القدس بعت الله
بعت رماد أمواتك
كأن حراب إسرائيل
لم تجهض شقيقاتك
ولم تهدم منازلنا
ولم تحرق مصاحفنا
ولا راياتها ارتفعت
على اشلاء راياتك
كأن جميع من صلبوا على الأشجار
في يافا وفي حيفا وبئر السبع
ليسوا من سلالاتك
تغوص القدس في دمها
وأنت صريع شهواتك
تنام كأنما المأساة
ليست بعض مأساتك
متى تفهم ؟
متى يستيقظ الانسان في ذاتك؟
هذه القصيدة التي أقامت الدنيا وأقعدتها على نزار في السعودية لم تكن المواجهة الوحيدة بين شاعر الحب والثورة وسلطات المملكة، ففي التسعينات اشتعل غضب السعودية على نزار من جديد، بعدما هجا الملك فهد واصفاً إياه بأبي جهل في قصيدته "أبو جهل يشتري فليت ستريت"، وملخص القصة أن عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية التي تصدر من لندن تطاول على نزار، فرد عليه شاعرنا بالقصيدة المذكورة، والتي انتقد فيها بأسلوبه الرصين واللاذع في آن معاً ظاهرة الصحافة العربية المهاجرة إلى أوروبا والتي تحولت إلى صحافة مرتزقة ومأجورة، وقد اخترنا لكم من هذه القصيدة الطويلة بعض المقاطع والتي ويالسخرية القدر تبدو وكأنها كتبت في يومنا هذا وليس قبل ما يقارب الربع قرن:
من كلِّ صوبٍ يهجم الجرادْ
ويأكل الشعر الذي نكتبه
ويشرب المدادْ
من كل صوبٍ..
يهجم (الإيدْزُ) على تاريخِنَا
ويحصُدُ الأرواحَ، والأجسادْ
من كلِّ صوبٍ.. يطلقونَ نفطهمْ علينا
ويقتلونَ أجملَ الجيادْ..
فكاتبٌ مُدَجَّنٌ.. وكاتبٌ مُسْتأجرٌ..
وكاتبٌ يباع في المزادْ
وصار للبترولِ في تاريخنا، نُقَّادْ؟؟
للواحد الأوحد.. في عليائه
تزدان كل الاغلفة
وتكتب المدائح المزيفة..
ويزحف الفكر الوصوليُّ على جبينهِ
ليلثمَ العباءةَ المشرفة ..
هل هذه صحافةٌ.. أمْ مكتبٌ للصيرَفَة؟
كلُّ كلامٍ عندهمْ ، محرمٌ
كلُّ كِتَابٍ عندهُمْ، مصلوبْ
فكيف يستوعب ما نكتبهُ؟
على الذي يريدُ أن يفوزَ
في رئاسة التحريرْ..
عليهِ .. أن يَبُوسَ
في الصباحِ ، والمساءِ رُكْبَةَ الأميرْ ..
عليه.. ان يمشي على أربعةٍ
كي يركب الأمير!!
لا يبحث الحاكم في بلادنا عن مبدعٍ..
وإنما يبحث عن أجير..
ما لليَسَاريِّينَ من كُتَّابِنَا؟
قد تركوا (لينينَ) خلف ظهرهمْ
وقرروا.. أن يركبوا الجِمَالْ!!
أيا طويلَ العمر:
لسنا نريد أي شيءٍ منك..
فانكح جواريك كما تريد..
واذبح رعاياك كما تريد..
وحاصر الأمة بالنار.. وبالحديد..
لا أحدٌ.. يريد منك مُلْكَكَ السعيدْ..
لا أحدٌ يُريدُ أن يسرُقَ منك جُبَّة الخِلافَة
فاشْربْ نبيذَ النفطِ عن آخِرِهِ..
واتْرُكْ لنا الثقافة
شاهد أيضاً: