في عام 1948 اهتز حي الجميزة البيروتي على وقع جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها مومس تدعى أنطوانيت نجار، القاتل التقى القتيلة في حانة قبل أن يصطحبها إلى منزل قريب قام باستئجاره حيث عاشرها هناك قبل أن يقوم بخنقها ثم بقطع رأسها الذي وجده المحققون مخبئاً في بيت المونة !
بعد هذه الحادثة شهدت الجميزة حادثة قتل ثانية، إسم الضحية جوزيف عوّاد والقتل كان بقصد السرقة هذه المرة، ولم تكد تمر بضعة أسابيع حتى استفاقت الجميزة على وقع جريمة جديدة ضحيتها الآنسة إيميلي عنطوري، هذه المرة قام القاتل بخطف ضحيته إلى منزل مهجور حيث قام بقتلها وسرقة مصاغها الذهبي !
ثلاث جرائم في ظرف بضعة أشهر، والجاني لا يزال حراً طليقاً، هكذا تسرب الرعب إلى شوارع بيروت في تلك الشهور من عام 1948، وهي المدينة التي لم تكن تشهد جرائم قتل إلا فيما ندر، لكن قوات الدرك تمكنت أخيراً من كشف الفاعل وذلك بالاعتماد على السلاح الذي استخدمه في جريمته الأخيرة، حيث أقدم على إطلاق أربع عيارات نارية من مسدس "كولت 12" على ضحيته إيميلي عنطوري.
إسم القاتل فيكتور حنا عواد من بلدة فتري قضاء جبيل، يعمل في حانوت لبيع الفحم، متزوج من نهاد عواد التي تعمل خادمة وليس لهما أطفال، شخصية فيكتور عواد غريبة مثيرة للجدل، فقد تطوع في شبابه في "جيش الشرق" الذي أسسه الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان، وتم صرفه منه بتهمة السرقة، حيث قضى عدة سنوات في السجن كتب خلالها مذكراته التي استند عليها محاميه موسى برنس في كتابه "ذهب ودم"، لذلك فقد أطلق عليه لقب "السفاح الأديب" !
ولد فكتور عواد في شباط فبراير من عام 1922، توفي والداه وهو طفل فتم إرساله إلى ميتم اللعازرية في بيروت، لكنه طرد منه بعد أن قام بسرقة صندوق النذور الخاص بالكنيسة، بعدها عاد فكتور إلى بيت عمه في فتري، ودرس في أحد معاهد بيروت حتى نال الشهادة المتوسطة، ثم تطوع في "جيش الشرق" وهناك شكل عصابة مع مجموعة من رفاقه حيث كانوا يقومون بالسطو على بعض "السهيرة" في ليل بيروت عقب خروجهم من الحانات والمواخير في وقت متأخر من الليل، ثم راحوا يسرقون الأسلحة والمؤن من ثكنات "جيش الشرق"، حتى كشف أمرهم، فحكم على فكتور عواد بالسجن 10 سنوات، لكنه خرج من السجن قبل أن يكمل المدة بعد أن شمله عفو عام.
في كتابه "ذهب ودم" يتحدث المحامي موسى برنس عن السفاح عواد ويحاول تحليل تلك الشخصية الغريبة والمعقدة فيقول : "ان من امعن النظر في شخصية فيكتور عواد وسمع اقوال من عاشره وعايشه يرى ان هذا الرجل كان غريباً في ميوله وطباعه، وإذا كانت هناك اشياء تميزه عن سواه من الناس فهناك ولا شك أشياء أخرى قد لا يعيرها المرء أي اهتمام لولا بروز صاحبها في عالم الاجرام، لقد كان فيكتور عواد قليل العناية بهندامه لا يعبأ به ابداً، ونحن لا نعلم ما إذا كان هناك أناس يكرهون الثياب كرهه لها. ومن غريب ما روي عنه في هذا الصدد أنه عندما أراد ان يرد زيارات الاقرباء والاصدقاء الذين جاؤوه مهنئين بزفافه ارتدى ثيابا عتيقة ممزقة، ونفش شعره فبدا وكأنه ذاهب الى مستودع «الفحم والجماجم» لا الى زيارة الناس".
ويضيف برنس : "والأغرب من ذلك انه لم يكن يخاف شر الأعاصير فيقي نفسه من برد الشتاء اللاذع وعواصفه الهوجاء، وكأن ايمانه بالحظ قاده الى الكفر حتى بالواقع المحسوس، فكان ينهض صيفاً وشتاءً وفي كل صباح «بالبروتيل» غير عابئ بتقلبات الطبيعة ولا بهبوب الرياح القارسة، وكأن شخصيته الشريرة أرادت ان تتمرد حتى على الطبيعة القاسية وأن تسخر حتى من الفلك العاتي الجبار، واذا ما تطرقنا الان الى تصوير هذا الرجل الغريب وتصرفاته نجده موضوع درس ذا اهمية كبيرة خاصة للعالم النفساني الذي يريد جلاء شخصية عجيبة، فبينما نراه رقيق الشعور هادئاً إذا به ينقلب الى وحش يحكّم في فريسته يديه المجرمتين ويلقيها في كيس من اكياس فحمه جثة هامدة ممزقة الأوصال، ثم يعود مرتاح البال كأنه لم يأت على ضحيته ولم يبعثرها أشلاء ودماء في بطن الارض الواسع الراغب في كل شيء".
ويتابع قائلاً : " كان عواد شرس الطباع لا تستطيع ان تتصوره عندما يثور اذ يصر باسنانه وتجحظ عيناه فيخيل اليك انك امام ذئب لا انسان، وهو بالرغم من ارتكابه جرائمه هذه لم يكن يحب الدم، بل كان ينفر منه نفور المجتمع منه، ومن غريب ما حدث ان احدى جاراته جاءته يوماً بدجاجة ليذبحها لها فرفض قائلا «ما لي قلب!» وهو لم يكن يكره الدم فحسب، بل كان يكره كل ما يرمز اليه ايضاً، ومما روته لنا احدى قريباته انه رآها ذات يوم ترتدي فستانا احمر فهجم عليها وضربها ضرباً مبرحاً وهددها بالقتل اذا عادت فلبسته، ومنذ ذلك الحين لم تعد تجرؤ على ارتدائه ابدا فاحتفظت به في خزانتها".
"ومن كان على شاكلة فيكتور عواد مجرماً يكون في معظم الاحيان ملحداً لا يؤمن بالله ولا بالآخرة، أما هذا وان لم يكن يحب الصلاة ولا القديسين، فقد كان يكنّ لاحدهم، مار انطونيوس، حباً عظيماً يتجلى في صلواته له وتبرعاته لصندوق الكنيسة التي تحمل اسمه، فقد كان يأتيه دائما بالشمع والزيت والبخور. ولم يكتف بذلك بل اشترى له ايضا «اجة» يأتمنها في كل مساء على شيء من النقود، حتى اذا امتلأت كسرها وجاء بما فيها الى مار انطونيوس يلقيه بين يديه، ولسنا نعلم السبب الذي كان يحمله على هذا التعبد الخاص لمار انطونيوس، فلعله انتقاه شفيعاً وأراد التعبد له كفارة عن ذنوبه وآثامه".
"وكان يتبرم بابنة العنقود فهو لا يحبها كثيراً ولا يشربها الا في مناسبة، ولكم عاد الى منزله بعد ان غسل يديه من دم ضحيته وترحم عليها على مسمع من الناس ولعن قاتلها، لكم عاد وطلب الى زوجته ان تهيئ له «تزكة» عرق وقليلا من «التبولة» يتناولها، وهو يعبث بعوده مرقصاً كلبه على أنغامه وكأنه في حفلة عرس، وقد اضحى القتل عنده عرساً، هكذا كان يفكر دائماً ويخفي اسراره في قلبه وكأنه عمل بالمبدأ الذي جاهر به امام رئيس محكمة الجنايات ابان محاكمته يوم سأله: كيف اقدمت على ارتكاب جرائمك وحدك يا فيكتور؟ فأجاب: سيدي الرئيس، فعلت ذلك لعلمي: «ان كل سر جاوز الاثنين شاع»، ولذا ظلت اعماله مخفية الى ان كشفت دفعة واحدة وهو موقن من أن مرور الايام قد أتى على آخر اثر من آثارها".
في يوم 31 كانون الثاني يناير 1949 نفذ حكم الإعدام في فكتور عواد شنقاً في باحة القصر العدلي في بيروت على مرأى ومسمع المئات ممن جاؤوا ليشاهدوا السفاح الذي روع مدينتهم لأشهر، وقد طلب قبل شنقه أن يودع محاميه موسى برنس، فعانقه بحرارة وسط شتائم الحاضرين وبخاصة أهالي ضحاياه.
شاهد أيضاً :