الخميس، 21 نوفمبر 2019

فيلم "الأيام الطويلة" : قصة حياة صدّام التي تقاطع فيها الواقع مع الخيال !


صدّام كامل في الفيلم

في عام 1975 روى نائب الرئيس العراقي آنذاك صدّام حسين للشاعر عبد الأمير معلة قصة نشأته وشبابه المبكر حين كان عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي وشارك في محاول اغتيال رئيس العراق عبد الكريم قاسم، معلة حوّل حكاية صدّام هذه إلى رواية أطلق عليها إسم "الأيام الطويلة" صدرت عام 1978 بعد أن نالت المسودة إعجاب صدّام حسين الذي صعد في العام التالي إلى كرسي الرئاسة الأول بعد أن أزاح معلمّه أحمد حسن البكر وحصد رؤوس رفاقه ومنافسيه في حزب البعث في جلسة مشهودة شهدتها قاعة الخلد ليبدأ عصر الخوف والحكم الفردي المطلق. 

بعد صعوده للسلطة قرر صدّام تحويل رواية "الأيام الطويلة" إلى فيلم سينمائي يخلد مسيرته النضالية، وقد وقع الاخيار على المخرج المصري توفيق صالح لإنجاز الفيلم، وهو مخرج معروف بانتمائه إلى تيار اليسار الماركسي حيث كان في رصيده العديد من الأفلام السياسية المثيرة للجدل مثل "المتمردون" عام 1968، و"المخدوعون" عام 1972. وقد تمثلت المهمة الأصعب للمخرج في اختيار الممثل الذي سيقوم بدور صدّام، وقد وضعت شروط صارمة كان من الضروري توفرها في الممثل الذي سيتصدى لدور المناضل البعثي الشاب، كان يجب أن لا يكون للممثل أي تاريخ شخصي مشين يلوث سمعته وأن لا يكون قد مثل أدواراً لا تليق بأن يمثل بعدها دور الرئيس القائد، وأن يكون متمكناً من التمثيل ليؤدي شخصية (مركبة) بالمعنى الدرامي والسيكولوجي. يقول المخرج بأنه ذهب إلى تكريت ليطلع على حياة الرئيس في مسقط رأسه، واصطدم نظره بشاب في العشرين من عمره يسير في الشارع يشبه كثيراً شخص الرئيس  في شبابه، ليكتشف لاحقاً بأن هذا الشاب هو ابن عم الرئيس ويدعى صدام كامل !


المخرج توفيق صالح

صدّام كامل ابن عم صدّام حسين وأحد مرافقيه الشخصيين وشقيق حسين كامل الضابط اللامع في الحرس الجمهوري كان غريباً عن أجواء السينما والتمثيل، لذلك وجب على المخرج أن يدربه على أساسيات هذا الفن، كما كان عليه أن يتعامل مع مزاج صدّام المتقلب وخشية طاقم عمل الفيلم منه بسبب موقعه الأمني، هكذا تم تصوير الفيلم الذي تدور معظم أحداثه حول محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم الفاشلة التي تمت عام 1959 واصيب صدّام على إثرها برصاصة في ساقه وحول فرار صدّام ورفاقه إلى سورية عبر الصحراء. وعند الانتهاء من تصوير الفيلم تم تسليم الأشرطة إلى المؤسسة العامة للسينما حتى تقوم بطباعة وتوزيع الفيلم على دور السينما في العراق والخارج.

يتحدث المخرج توفيق صالح عن هذه الفترة فيقول : "عندما أنهيت إخراج الفيلم وطباعة عدد كبير من النسخ تم توزيعها على كل صالات السينما في العراق ليعرض الفيلم في ليلة واحدة، وفيما منحت فسحة للاستراحة في بحيرة الحبانية أنا وعائلتي، فوجئت في اليوم الأول للاستراحة بوصول مدير مؤسسة السينما الذي أعلمني بضرورة الذهاب فوراً إلى القصر الجمهوري فالرئيس يريد أن ألتقيه. وعندما سألته عن السبب رفض الحديث وقال لي لا أعرف. وصلت إلى القصر الجمهوري. وأدخلت في صالة انتظار. ثم دعيت للدخول، فوجدت نفسي في صالة عرض سينمائية داخل القصر ، وكان الرئيس يجلس مع زوجته في الصف الأول  وفي الصف التالي جلس طارق عزيز وناصيف عواد ووزير الإعلام لطيف نصيف جاسم وعزة الدوري وآخرون لم أعرفهم ، وبدأ عرض الفيلم. وعندما وصل الشريط إلى المشهد الذي صورت فيه شخصية صّدام حسين والطبيب يخرج رصاصة من ساقه، تلك التي أصيب بها أثناء محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، طلب الرئيس إيقاف عرض الفيلم. كانت اللقطة تصور وجه صدّام حسين (الممثل صدّام كامل) على الشاشة وهو يعبر عن ألم خفيف كردة فعل لإخراج الرصاصة من ساقه في عملية جراحية بدون تخدير تمت في مخبأ حزبي. هنا صاح صدّام حسين مخاطباً أحد الحاضرين وكان هو نفسه الطبيب الذي أخرج الرصاصة من ساق الرئيس عام 1959. قال : عندما أخرجت الرصاصة من ساقي، هل تأوهت أنا من الألم؟ فقال الطبيب : أبدا يا سيدي.  فقال له : قل ذلك لمخرج الفيلم. هنا حاول وزير الإعلام  أن يتدخل قائلاً : والله اللقطة حلوة سيدي، ولم يظهر المخرج سوى تألم بسيط.  فصاح به الرئيس : أسكت .. أنت ما تفتهم شي. ثم قالوا لي نريد حلاً الليلة وغداً يجب أن تتبدل كافة النسخ في صالات السينما عند الافتتاح! ماذا بوسع مخرج يحتاج إلى الممثل وماكيير ومسؤول إنارة ومصوّر ومهندس صوت وفيلم خام وطبع وتحميض ومونتاج لتغيير لقطة طولها بضعة ثوان يتم إدخالها في عشرات النسخ من الفيلم. يقول المخرج : فجأة قفزت  إلى ذهني صورة بطل الفيلم عندما كان ينتظر أداء دوره يوماً وكان صامتا فالتقط له المصور لقطة سينمائية وهو في صمته ينتظر دوره. تذكرت اللقطة، فهرعت إلى مؤسسة السينما ومن بين ركام آلاف الأمتار المرمية في سلال المهملات، بدأنا نبحث عن لقطة البطل وهو صامت فعثرنا عليها وقمنا بطباعتها  واستنفرت مؤسسة السينما بأسرها لتعيد طبع تلك البكرات وتنطلق السيارات في اليوم الثاني إلى كل مدن العراق وإلى صالات السينما لإبدال بكرات الفيلم التي يظهر فيها الرئيس متألما قليلاً من طلقة  تخرج من ساقه بدون مخدر، فيظهر صامتا صامداً لا يعرف الألم!".


لقطة من الفيلم

وبعيداً عن الفيلم وكل ما صاحبه من دراما سواء أمام الكاميرا أو في كواليس التصوير، فقد شهدت السنوات اللاحقة دراما من نوع آخر تشبه في قسوتها وتراجيديتها الملاحم الإغريقية، فصدّام شبيه الرئيس وسميّه وابن وعمه وممثل شخصيته على الشاشة تزوج هو وشقيقه من ابنتي الرئيس، هكذا صعد الشقيقان إلى أعلى سلم السلطة في عراق الثمانينات وبداية التسعينات، حتى انهار كل شيء ذات ليلة حين قرر صدّام وحسين كامل الفرار إلى الأردن مع زوجتيهما والأطفال، قبل أن يعودا إلى العراق بعفو رئاسي، ثم يقتلا يوم 23 شباط فبراير 1996 على يد رجال من أبناء العشيرة وبتكليف من الرئيس. هكذا مات الرئيس في الدراما، مات بطل "الأيام الطويلة" صدام كامل، وأعلن خائناً في طول البلاد وعرضها. وبذلك أصبح الفيلم ممنوعاً من العرض !

أراد صدّام إنتاج نسخة جديدة من الفيلم، لكن عوائق كثيرة حالت دون ذلك منها عدم العثور على ممثل بالمواصفات المطلوبة ووفاة مؤلف الرواية الذي كان يعد جزءاً ثانياً منها، وأخيراً احتلال العراق وسقوط نظام صدّام حسين بكل رموزه الأيديولوجية. 


شاهد أيضاً:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق