إيلي كوهين (1924-1965) هو بلا شك أحد أشهر جواسيس الموساد عبر تاريخه الطويل، وهو بطل قومي من أبطال دولة الاحتلال ورمز من رموز جهاز المخابرات فيها، وهو أمر يبدو بعد قليل من التأمل مثيراً للاستغراب، فكوهين بكل المعايير جاسوس فاشل حيث أن أمره قد كشف بعد أربع سنوات فقط من دخوله إلى سورية، وقد حوكم وأعدم شنقاً على مرأى ومسمع من العالم، فكيف تحول جاسوس فاشل إلى أسطورة من أساطير المخابرات؟
الواقع أن إسرائيل كانت مهمومة دائماً بترسيخ أسطورة تفوق جيشها وأجهزة استخباراتها في ذهن شعبها وكذلك لدى الشعوب العربية، لذلك فقد عمدت إلى تحويل عملية ايلي كوهين من فشل استخباراتي ذريع إلى قصة بوليسية عن البطل اليهودي الذي دخل إلى عقر دار العدو وتغلغل داخل قيادته وضحى بحياته من أجل إسرائيل، وفي سبيل هذا قدمت إسرائيل الكثير من المبالغات حول دور كوهين ودرجة تغلغله داخل القيادة المدنية والعسكرية السورية، وقد تلقفت وسائل إعلام وصحفيون عرب معادون للنظام في سورية هذه المبالغات وتطوعوا لإعادة نشرها على أوسع نطاق، ومن بين تلك الوسائل الإعلامية صحف ومجلات عراقية أولبنانية تابعة للعراق في أواخر الستينات، حيث كان النظام البعثي في العراق آنذاك في حالة عداء شديد مع نظام البعث السوري، وكانت المعارك الإعلامية بينهما دائماً ما تزخر بقصص التآمر والتهم المتبادلة بالخيانة والعمالة إما للغرب أو لإسرائيل ومخابراتها.
كوهين أيام شبابه في الإسكندرية
ولد إلياهو شاؤول كوهين في الإسكندرية لأسرة يهودية مصرية من أصول حلبية سورية عام 1924، درس في مدرسة الليسيه، حيث تعلم الفرنسية إلى جانب العبرية والعربية، وقد أبدى اهتماما مبكرا بالديانة اليهودية فالتحق بمدرسة الميمونيين في القاهرة، ثم عاد لتلقي الدراسات التلمودية في الإسكندرية تحت رعاية الحاخام موشيه فينتورا، في الأربعينات انضم لإحدى المنظمات الشبابية الصهيونية التي كانت تنشط سراً في مصر وكان يقودها إبراهام دار، وفي عام 1954 ألقت السلطات المصرية القبض عليه مع مجموعة كبيرة من الشباب اليهود بتهمة التورط في فضيحة "لافون" الشهيرة، حيث قام إرهابيون يهود وقتها باستهداف عدد من المصالح الغربية في مصر وذلك بهدف تخريب علاقة النظام الجديد في مصر مع الدول الغربية.
أطلقت السلطات المصرية سراح كوهين بعد أن ثبت عدم تورطه في التفجيرات، وفي عام 1955 هاجر إلى إسرائيل حيث تنقل بين عدد من الوظائف المدنية، وفي عام 1959 تزوج من فتاة يهودية من اصل عراقي تدعى نادية.
كوهين يوم زفافه على زوجته نادية عام 1959
كوهين ونادية في رحلة إلى منطقة روش هانيكرا السياحية القريبة من حدود فلسطين المحتلة مع لبنان
جهاز المخابرات الإسرائيلية والذي كان يبحث عن جواسيس يزرعهم في البلاد العربية وجد في كوهين الشخص المناسب بسبب إتقانه للغة العربية وماضيه في العمل السري، فتم إخضاعه لتدريب مكثف مدة ستة أسابيع، أرسل بعدها إلى الأرجنتين بأوراق مزورة، وفي الأرجنتين انخرط كوهين في أوساط الجالية السورية الكبيرة هناك، باعتباره رجل أعمال سوري مسلم إسمه كامل أمين ثابت، وفي شباط فبراير 1962 انتقل كوهين بناء على تعليمات الموساد إلى دمشق، وقدم نفسه إلى المجتمع الدمشقي باعتباره مغترباً عائداً لأرض الوطن، وسريعاً بنى كوهين لنفسه شبكة علاقات واسعة معتمداً في ذلك على الحفلات والولائم التي كان يقيمها في بيته، وعلى الهدايا التي كان يغدقها على الأشخاص الذين كان يعتقد بأنهم قد يكونون مفيدين له في عمله الاستخباري، كما أقام عدداً من العلاقات النسائية مع فنانات ومضيفات طيران وسيدات مجتمع وإحدى سكرتيرات وزارة الدفاع، مستفيداً من شخصيته الدونجوانية ومن وضعه كثري عازب.
كوهين في دمشق
بعد فترة نجح كوهين في تجنيد عدد من المتعاونين، حيث ضمت الشبكة التي كونها ضباطاً في القوات المسلحة وموظفين في الإذاعة وفي مطار دمشق الدولي وعدد من أجهزة الدولة الأخرى كانوا يمدونه بالمعلومات، وقد كان يعتمد على جهاز لاسلكي في إرسال التقارير إلى رؤساءه في إسرائيل، حيث كان الجهاز مخبئاً في شقته، كما سافر إلى إسرائيل خلال هذه الفترة بشكل سري ثلاث مرات للاجتماع بضباط الموساد وتلقي التعليمات.
خلال آخر زيارة له إلى إسرائيل في تشرين الثاني نوفمبر 1964 عبر كوهين لرؤسائه عن خوفه من افتضاح أمره، خاصة أنه علم أن ضابط المخابرات السوري أحمد سويداني كان يجري تحريات عنه، لكن ضباط الموساد طمأنوه إلى أن كل شيء على ما يرام، وفي كانون الثاني يناير 1965 اقتحمت قوات أمن سورية شقة كامل أمين ثابت وألقت القبض عليه متلبساً أثناء قيامه بإرسال الرسائل اللاسلكية إلى أسرائيل، حيث كانت أجهزة الأمن قد التقطت إشارات الراديو الصادرة وحدد مصدرها بدقة اعتماداً على تجهيزات حديثة سوفييتية الصنع.
المبنى الذي كان يقطنه كوهين حين تم إلقاء القبض عليه متلبساً في كانون الثاني يناير 1965
كوهين وأعضاء شبكته التجسسية في قفص الإتهام خلال محاكمتهم أمام المحكمة العسكرية بدمشق
حوكم كوهين أمام محكمة عسكرية مع أعضاء شبكة التجسس التي كان قد كونها، ونقلت وقائع محاكمته آنذاك على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون السوري، حيث يتذكر ذلك الجيل من السوريين وقائع المحاكمة والأداء المسرحي لرئيس المحكمة العقيد صلاح الدين الضللي، وقد حكم على كوهين بالإعدام شنقاً، ونفذ الحكم يوم 18 ايار مايو 1965 في ساحة المرجة بدمشق رغم الضغوطات الكبيرة التي تعرضت لها سورية آنذاك لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام، وقد دفن كوهين في دمشق في حين رفضت الحكومة السورية مراراً طلب أسرته بنقل رفاته إلى إسرائيل.
في إسرائيل اعتبر كوهين شهيداً وبطلاً قومياً وصدر عدد من الكتب والوثائقيات التي تناولت سيرته مع كثير من المبالغات، حيث ادعى بعضها أن المعلومات التي زود بها كوهين إسرائيل كان لها أثر حاسم في انتصار الجيش الإسرائيلي في حرب عام 67، كما صدر عام 1987 فيلم تلفزيوني حمل عنوان "جاسوس المستحيل" تناول سيرة كوهين، وادعى أنه كان على علاقة بالرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ، لكن الحافظ نفى في لقاء تلفزيوني أي معرفة بينه وبين كوهين، وأكد أن المرة الوحيدة التي رآه فيها كانت في فرع فلسطين خلال التحقيق معه بعد أن تم إلقاء القبض عليه.
رسالة كوهين إلى زوجته قبل إعدامه
نهاية الجاسوس
شاهد أيضاً :